L.A.C.C.P
نكتب اليوم، لا لتوزيع التهم ولا لتبرئة أحد ، بل لنضع المرآة أمام واقع مرير، نعيشه جميعا ونساهم في صناعته، شاء من شاء وأنكر من أنكر.
يحكى أنه كان هناك تيسان تقابلا عند منتصف جسر ضيق، مقام فوق هوة سحيقة، فأبى كل منهما إلا أن يمر على حساب سقوط الآخر، لكن لأنهما تيسان، فقد غاب العقل، وغابت الحكمة، فتناطحا حتى سقطا معا في قاع الهاوية.
ليست هذه الحكاية مجرد قصة عناد وتكبر، بل استعارة حقيقية تعكس واقعنا الحقوقي والحقوقي، حيث يتصارع البعض من أجل الإرتقاء على حساب الآخر، في مشهد مسرحي بئيس ، أمام جمهور أرهقته تقلبات المعيشة، وأعيته الوعود الكاذبة حتى أصبح لا يصدق أحدا .
في هذا المشهد، نجد الصراع المحتدم بين فاعل حقوقي وبرلماني، كلاهما يتهم الآخر بالفساد، وكل طرف ينازع الآخر بالحجج، من أجل إزالة عباءة النزاهة عن الآخر، لا لإحقاق الحق، بل لتلميع صورته هو بوصفه الطرف النزيه، والطرف الآخر فاسد و خائن للوطن، وذلك كله لكسب عاطفة الرأي العام، استجلابا لمصلحة اجتماعية أو مكانة سياسية مستقبلا.
فهذا الصراع، يبدو في ظاهره دفاعا عن القيم والمبادئ الأساسية للوطن، ولكن للأسف يخفي في جوهره تنازعا مريرا على الشرعية الرمزية والمكانة الأخلاقية داخل المجتمع، و الجمهور لا يعبر في الغالب عن موقفه إلا عبر تعليقات انفعالية حماسية، تكون بمثابة :
حطب يأجج به الصراع وتحلى به الفرجة،
ورداء لوهم البطولة يتفاخر به الطرفين،
فتحتدم بذلك المعارك الخطابية، تُلقى فيها التهم بلا حسيب، وتتداول فيها ملفات لم تفصل فيها العدالة بعد، ويستدعى الإعلام كحكم في نزاع عرض مسبقا على القانون، والنتيحة هي التحول من محاربة الفساد إلى سباق على من يحتكر لغة النزاهة في الفضاء العمومي، وهذا الفعل أشد فسادا من الفساد نفسه .
ففي غمرة هذا الصراع، تغيب القضايا الحقيقية التي تهم المواطن، وتطمر الملفات التي تحتاج إلى جرأة كبيرة، لا إلى صراخ مرتفع، وكأننا نعيد في مشهد معاصر حكاية التيسين الذين تناطحا فوق جسر ضيق، فكان المصير سقوطهما معا في الهاوية.
ولكن اسمحوا لنا أن نقول لكم، و بصراحة مطلقة ، أننا كلنا فاسدون ، ولكن درجاتنا في ذلك تختلف، فلا أحد معصوم من الفساد سوى الأنبياء والرسل ، ولو كانت للفساد رائحة، لفاحت من أجسادنا جميعا روائح نتنة، ولما احتجنا إلى الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، بل إلى كمامات وقائية.
أكيد أن القضاء هو الذي له كلمة الفصل في جميع القضايا، أما الجمهور فغالبا ما يصدر أحكامه متأثرا بأهوائه وخلفياته السياسية والإيديولوجية، فنجده يوزع صكوك الغفران و ينصب حبال المشنقة في الآن ذاته… ولكن يجب أن تكون عندنا الشجاعة الكافية لنعترف أن كل واحد منا يشجع ويتعاطف مع نوع ما من الفساد إما جهرا أو سرا ، فمن يشجع الإداري الفاسد سوى المواطن الراشي، ومن يشجع السياسي الفاسد سوى المواطن الذي يصوت على أساس المصلحة الشخصية ، ومن يشجع التاجر الفاسد غيرالمواطن الذي يرضخ لارتفاع الأسعار ولا يقاطع، ومن يشجع الإعلامي الفاسد غير المواطن الذي يستهلك دون تفكير وينشر دون تحقق ، ومن يشجع الحقوقي الفاسد سوى من رأوا فيه عصا تجلد بها ظهور الخصوم.
الأكيد أنه إذا اتسعت دائرة محاربة الفساد وربط المسؤولية بالمحاسبة التي نهجتها الدولة ، فربما الديار لن يسكنها إلا القطط ولن يتجول في الشوارع إلا الكلاب، والإستثناء في هذا الطرح موجود ، ولا نقول أن الفساد قدر محتوم ولا نلبس ثوبه للجميع ، ولكن المؤشرات الرسمية مرتفعة جدا و الواقع يقول كذلك ، فالفساد بأنواعه المختلفة و طرقه الملتوية أصبح أسلوب حياة لدى كثير من فئات المجتمع ، فلا نكاد نبيت عن أخبار متعلقة بأبحاث قضائية واعتقالات بتهم الفساد، حتى نصبح عليها.
ولكن لابد أن نطرح السؤال الآتي : من منا لا يخرق القانون في حياته اليومية؟ سؤال بسيط و الجواب عليه يحتاج إلى جرأة كبيرة وصراحة حقيقية.
إن الاعتراف بأن لا أحد معصوم من الفساد ، ليس تبريرا للفساد ولا رفعا للحرج عن الفاسدين ، بل فرصة لتقييم ذواتنا جميعا ومراجعة السلوك بعيدا عن المزايدات الفارغة والشعارات الجوفاء، والتظاهر بالنزاهة والأمانة أمام الجميع، وبالمقابل يتم اغتصاب الحقوق في جنح الظلام، وتتخذ قضايا الناس سلما(ضم السين) إجتماعيا ، فمحاربة الفساد لايجتمع مع ابتغاء المكانة الاجتماعية، يقول الله تعالى (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) سورة القصص .
والمؤسسة القضائية باعتبارها مؤسسة قائمة على القانون والشرعية الدستورية لا تقبل المزايدات، فهي أسمى من أن تخضع لنزوات الأفراد وأذكى من أن تستغل ، فاستقلالية القضاء لا نقاش فيها والقانون هو السلطة العليا، والمحاسبة أصبحت شاملة لا تفرق بين صغير أو كبير ، ونقول هذا قناعة منا بأن المغرب هو دولة المؤسسات التي لا ترضخ لمنطق الميديا أو توجه عبر سياسة لي الدراع .
إن الرأي حر والقرار غير ملزم ، أما الحقيقة فهي دائما نسبية ولسيت مطلقة… وإيماننا راسخ بالمؤسسات لا بالأفراد ، أما هذا النقد فهو نابع من حب الوطن، وكما قال عاهل البلاد : ولا داعي للتذكير هنا، بأننا لا نقوم بالنقد من أجل النقد، وإنما نعتبر أن النقد الذاتي فضيلة وظاهرة صحية، كلما اقترن القول بالفعل وبالإصلاح. مقتطف من الخطاب الملكي الذي وجهه صاحب الجلالة الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى الـ19 لتربع جلالته على عرش أسلافه المنعمين.
وختاما، فالضمير الحي هو المحكمة التي لا تغلق أبوابها ولا يرتشى قضاتها ، ومن لم تطله عدالة الأرض لن تخطئه عدالة السماء .
يتبع …
- الحقوقي .. استراتيجية الإلهاء
- البرلماني .. البراءة المجتمعية















