
في ربع قرن من حكم جلالة الملك محمد السادس، كرس المغرب مكانته كدولة ذات سيادة متجذرة في محيط إقليمي غير مستقر، 25 عاما من التحديث المتواصل لم تكن مجرد سيرورة تنموية، بل كانت مشروعا استراتيجيا متكاملا لصناعة مناعة دولة قادرة على تحصين نفسها ضد الفوضى الخلاقة، والثورات المصطنعة التي عصفت بدول كثيرة، فبينما كانت الدول العربية تسعى جاهدة لتجاوز أزمات الثورات الشعبية، رسخ المغرب معادلة السيادة القائمة على الأمن والاستقرار.
هذه المناعة الأمنية المغربية لم تكن مجرد جدار صلب ضد التهديدات الداخلية ، بل تحولت الى منظومة استخباراتية معقدة لها نظرة ثاقبة للمتغيرات العالمية، وتستبق المخاطر والأزمات التي تعيد تشكيل العالم في صمت.
في هذا السياق، برز عبد اللطيف حموشي كأحد أعمدة الدولة المغربية الحديثة، حيث أعاد تشكيل جهاز المخابرات لاديستي، لتصبح مؤسسة أمنية رائدة على المستوى الدولي، يرابط أبناؤها الأوفياء ليلا ونهارا من أجل الدفاع عن استقرار المملكة وحماية عمقها السيادي.
المخطط الأخير الذي أحبطته المخابرات المغربية يكشف عن تطور غير مسبوق في نوعية التهديدات التي تستهدف المغرب، حيث لم يعد الخطر الذي يهدد المملكة إرهابيا أو إجراميا، بل أصبح مشروعا انقلابيا ناعما مغلفا بعمليات احتيال مالي دولي معقد، جرى فيه استخدام تسجيلات “ديب فايك” بصوت المستشار الملكي فؤاد عالي الهمة مع جوازات دبلوماسية مزورة لاستدراج استثمارات وهمية بأكثر من مليار دولار تحت غطاء مشاريع مونديال 2030.
لكن المؤامرة لم تقف عند هذا الحد، بل انخرطت فيها أسماء مثل الخائن المهدي حيجاوي الموظف السابق المطرود من لادجيد كمنسق ميداني وتحت غطاء من جهات إماراتية نافذة سعت الى الترويج لفكرة وهمية عن “مجلس وصاية” على العرش المغربي، هذا السيناريو الخطير كان يهدف الى زعزعة استقرار الدولة من الداخل عبر ضرب الثقة في المؤسسة الملكية، وهو ما يمثل أخطر أشكال الحروب الناعمة.
ولأن الاختراق دائما لا يكتمل بدون تمويه إعلامي، فقد تم توظيف أسماء كثيرة مثل هشام جيراندو المقيم في كندا وعلي المرابط وغيرهم ضمن شبكة إعلامية تعمل على بث سرديات يومية لتضليل الرأي العام الوطني وصرف الأنظار عن حقيقة المخطط الانقلابي الخبيث، هؤلاء اشتغلوا كأدوات بروباغندا لإعادة إنتاج صورة زائفة عن الدولة المغربية ككيان ضعيف يتآكله الفساد والصراع الداخلي.
لكن لاديستي لم تنطلي عليها هذه الخدعة، ولم تسقط في فخ هذا التشويش، إذ لم تكتف بتفكيك الشبكة الاحتيالية من الناحية المادية، بل فضحت الغلاف الاعلامي الذي كان يغلفها، مبرزة أن الحروب المعاصرة لا تدار بالترسانة العسكرية فقط، بل بالاختراق الرمزي والإعلامي، هكذا استطاعت المخابرات المغربية أن تتوغل خارجيا في شبكات الإحتيال وأحبطت الخطة قبل أن تكتمل.
لا يمكن تجاهل أن محاولات الإختراق الخارجي للمغرب ليست وليدة اللحظة، فدولة الإمارات العربية المتحدة راهنت منذ سنوات على اختراق المشهد الاعلامي المغربي عبر شراء وحدات اعلامية ودعم أخرى محاولة خلق رأي عام يروج لرواياتها السياسية، أما قطر فبعدما لم تفلح قناة الجزيرة في التأثير على صورة المغرب وزرع الفتنة داخله، انتقلت إلى دعم مقاولات إعلامية جديدة ومؤثرين وصحفيين مغاربة بالتوازي مع تحالفها مع جماعة العدل والاحسان لتوسيع هامش الضغط السياسي، كما سبقتهما في ذلك المملكة العربية السعودية حيث من جهتها ركزت على إختراق المجتمع المغربي عبر دعم الجمعيات الدعوية لنشر الفكر الوهابي كقوة تأثير إيديولوجية موازية.
في ظل كل هذا التعقيد الجيوسياسي قدمت المخابرات المغربية نموذجا فريدا في السيادة الأمنية القادرة على حماية استقرار الدولة دون الإنجرار إلى استعمال القوة الأمنية، هذه الإستراتيجية الأمنية مكنت المغرب من الحفاظ على موقعه كقوة إقليمية صاعدة، وكرست الثقة الدولية في المملكة المغربية الشريفة وفي أجهزتها الأمنية التي باتت شريكا لا غنى عنه في حماية الأمن الإقليمي والدولي.
ولا يخفى على أحد، أن هذا الإستقرار الأمني كان عاملا رئيسا مكن المملكة بتعزيز مسارها التنموي وجلب الاستثمارات الكبرى و احتضان المؤتمرات و تظاهرات عالمية مثل مونديال 2030 ،كما جعلها قبلة سياحية واعدة و آمنة، فالأمن لم يكن يوما غاية في ذاته بل رافعة قوية للتنمية والاستقرار الاجتماعي والسياسي.
وأمام هذا التنوع في محاولات الاختراق الذي يواجهه المغرب من أكثر من جبهة، يبعث المغرب رسالة واضحة للعالم أجمع، أن هذا الوطن ليس بذلك البلد الذي تلوى يده أو يطعن في ظهره، فهو لا يخضع لمنطق الابتزاز بل يدير علاقاته الخارجية بمنطق رابح-رابح في إطار الاحترام المتبادل، فالمغرب في جوهره دولة ذات روح سيادية تسري في مؤسساته الأمنية ،الدبلوماسية، الاقتصادية والاجتماعية، تتقن إدارة التوازنات الكبرى دون أن تتخلى عن ثوابتها الوطنية.
وإذا كان المغرب قد نجح في كشف وإحباط مؤامرات خطيرة استهدفت أمنه واستقراره، فإن ذلك لا يعني أن المعركة قد انتهت، فحسادنا كثر والحروب ضد الدول لم تعد ذات صبغة عسكرية، بل أصبحت سيبرانية، إعلامية، ورمزية، تخترق الدول من مسافات بعيدة وتستهدف العمق السيادي عبر أدوات ناعمة خبيثة، لذلك، فإن المملكة رغم ما راكمته من مناعة سيادية قوية تظل مدعوة إلى مضاعفة جهودها في تطوير بنيتها الرقمية والسيبرانية، مع تحصين مجالها الإعلامي والإتصالي.
كما أنه أصبح استثمار الجبهة الخارجية للمملكة المتمثلة في الجالية المغربية المنتشرة عبر دول العالم، رهانا استراتيجيا لتعزيز الحصانة السيادية للمملكة، فهي بمثابة قوة دبلوماسية موازية قادرة على الدفاع عن المصالح العليا للوطن، والتصدي بحزم وذكاء لكل محاولات التشويه والاستهداف التي تحاك ضد المملكة .
وبين القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس وحكمة رجالات أمنه، سيبقى المغرب يمضي بثبات نحو مستقبل يصنعه بإرادته السيادية، وعلى الأحزاب الوطنية أن تبقى ذات استقلالية، وأن تدرك حجم التحديات وتواكب هذا المسار بمسؤولية وطنية حقيقية، لأن بناء الدولة وصون سيادتها يتطلب وحدة الصف والتضامن في مواجهة أعداء الداخل والخارج، فالمغرب بحاجة إلى قوة سياسية متماسكة تعزز مناعة الوطن وتدافع بتفان عن رموز سيادة مؤسساته .
Be the first to comment