إن مقاربة المشهد السياسي بدراسة تحليلية تقتضي قراءة مزدوجة، أولا قراءة للنص بما هو ظاهر ومباشر، وثانيا قراءة للهامش بما هو دال على ما يصاغ في الكواليس وما يعاد ترتيبه في البنية العميقة للأحزاب والفاعلين السياسيين، فالنص السياسي هو ما يقدم للرأي العام من قرارات، مواقف أو خطابات رسمية، أما الهامش فهو مجال الرموز والإشارات الخفية التي تعكس طبيعة العلاقات الداخلية، وحدود القوة والتأثير بين مختلف الفاعلين، ومن خلال هذه القراءة المزدوجة يتضح أن السياسة ليست مجرد فعل لحظي أو قرار فوقي بقدر ماهي تراكم لتوازنات دقيقة وتقاطعات بين المصالح المحلية والوطنية، وصراعات معلنة وأخرى صامتة، إن هذا المستوى من التحليل يسمح بالاقتراب أكثر من حقيقة المشهد، ليس كما يسوق في العلن وإنما كما يبنى في المكاتب المغلقة المكيفة، حيث تتحدد مواقع القوة وترسم ملامح المستقبل الحزبي والسياسي.
وإذا ما أسقطنا هذا المنظور التحليلي على واقع حزب التجمع الوطني للأحرار في مدينة مراكش، فإننا نجد أنفسنا أمام مشهد مزدوج بدوره: مشهد ظاهر يتمثل في قرارات مركزية واضحة تصدر عن القيادة السياسية بزعامة رئيس الحزب السيد عزيز أخنوش، مع خطاب سياسي يسعى إلى تعزيز صورة الحزب كقوة مجتمعية ذات امتداد شعبي، بالمقابل مستوى محلي يكشف عن ضعف في الترجمة الميدانية لهذه القرارات وعن انقسام صامت بين دينامية فردية تحاول الاقتراب من المجتمع، وأخرى عبارة عن كتلة تنظيمية تبدو أسيرة الجمود والمصالح الضيقة، إن هذا التباين بين المركز والقاعدة لا يعكس اختلاف في الأساليب أو الأولويات وانما يشير إلى أزمة أعمق في التنظيم الحزبي وإلى خلل في القدرة على تحقيق الانسجام المطلوب بين ما يعلن وطنيا وما يمارس محليا.
يظهر المشهد الحزبي في مدينة مراكش أن حزب التجمع الوطني للأحرار يعيش حالة من التباين الواضح بين أداء بعض الوجوه البرلمانية التي تسعى إلى إعادة وصل الحزب بعمقه الاجتماعي، وبين كتلة تنظيمية أوسع تبدو في حالة جمود أو عزلة عن القضايا الراهنة، هذا التباين لا يمكن قراءته فقط كاختلاف في الفكر والمنهج، ولكنه يتجاوز ذلك ليكشف عن ملامح انقسام داخلي غير معلن يعكس أزمة أعمق في البناء التنظيمي والسياسي لحزب الأحرار بمراكش.
شكل تدخل أحد برلمانيي الحزب في موضوع دورية الدراجات النارية محطة بارزة حيث جسد مفهوم القرب الاجتماعي من خلال تبني موقف واضح إلى جانب المواطنين، مما أعطى للحزب صورة اجتماعية تعيد الاعتبار لرمزيته السياسية الاجتماعية، في المقابل لم يسجل لبقية المنتخبين المحليين أو البرلمانيين من الحزب أي تفاعل يذكر، حتى بعد أن اتخذ السيد رئيس الحكومة عزيز أخنوش قرارا بتعليق العمل بالدورية، هذا الغياب عن اللحظة السياسية يعكس حالة انفصال كبيرة عن القيادة المركزية من جهة، وانفصال عن المجتمع من جهة أخرى.
إن عدم استثمار القرار السياسي الذي جاء من قمة هرم الحزب (رئيس الحكومة) يبرز إشكالية مزدوجة:
. هشاشة قنوات التواصل التنظيمي: إذ يبدو أن التفاعل بين القاعدة المحلية والقيادة الوطنية محدود، مما يفقد الحزب القدرة على التحرك ككتلة منسجمة.
. غياب المبادرة السياسية: فالتنظيم المحلي للحزب لم يحول هذا القرار إلى رصيد سياسي يمكن استثماره شعبيا على حساب حزب الاستقلال وحزب الأصالة والمعاصرة، مما جعل الحزب يظهر بعيدا عن اللعبة السياسية.
هذه الوضعية تجعل الحزب في مراكش يبدو وكأنه قائم على دينامية فردية معزولة أكثر من كونه تنظيما جماعيا متماسكا، وهو ما يطرح أسئلة حول طبيعة العلاقات الداخلية: هل نحن أمام انقسام صامت بين تيار يسعى إلى تجديد الخطاب الاجتماعي للحزب، وآخر يفضل التموقع داخل توازنات تقليدية قائمة على الحسابات التنظيمية والمصالح الضيقة؟ أم أن الأمر يتعلق بعجز هيكلي في تأطير النخب المحلية وتوجيهها؟
في الواقع، إن هذه الفجوة بين المستوى المركزي والمستوى المحلي ليست ظاهرة معزولة تخص حزب التجمع الوطني للأحرار وحده، وإنما تعكس أزمة كبرى تعيشها عدة تنظيمات حزبية في مدينة مراكش، حيث غالبا ما تغيب الترجمة المحلية للقرارات السياسية الوطنية، مما ينتج عنه صورة لمشهد سياسي مرتبك ومفتقر إلى الانسجام.
في كل الأحوال فإن غياب الانسجام بين القرار المركزي والتفاعل المحلي يضعف صورة الحزب في أعين المواطنين، ويجعل الحزب يظهر وكأنه كيان منقسم على ذاته: جزء نشيط قادر على تجسيد الحس الاجتماعي، وجزء آخر غارق في سبات عميق ينتظر الاستحقاقات الانتخابية ليعتلي أمواج الحزب، وإذا استمرت هذه الثنائية فإنها قد تؤثر سلبا على موقع الحزب في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة خاصة في مدينة مثل مراكش ذات الامتداد السياسي القوي للأحزاب الكبرى.
وهنا لا يمكن إغفال دور المنسق الجهوي للحزب الذي كان في وقت قريب حلقة وصل قوية مكنت الحمامة بجهة مراكش-آسفي من التموقع كإحدى الجهات الرائدة تنظيميا وسياسيا، بفضل ما راكمه من خبرة في بناء التوافقات، القدرة على الإنصات، والتحفيز على المبادرات، غير أن التجاذبات الراهنة أبرزت حاجة متزايدة إلى تجديد آليات العمل وتعزيز فعالية الإدارة الجهوية، إذ بدا أن دينامية الوصل بين مكونات التنظيم لم تعد بالزخم نفسه، كما أن بوادر التصدعات الداخلية باتت أكثر وضوحا في ثنايا هياكل الحزب جهويا الذي انعكس على انسجام المواقف وقدرة المنتخبين على الدفاع عن اختيارات القيادة السياسية، ومع ذلك فإن الرصيد الذي راكمه المنسق الجهوي يظل أساسا يمكن البناء عليه لإعادة الحيوية إلى التنظيم الجهوي.
استشرافا للمستقبل، يستشف من تحليل المعطيات السياسية الراهنة المتوفرة، أنه أصبح من الضروري على حزب التجمع الوطني للأحرار بمراكش الإسراع في ترميم الصفوف، تجديد الهياكل وتسوية الخلافات الداخلية، بالنظر إلى أن المستقبل ينذر باصطدام سياسي قوي محتمل بحزب الأصالة والمعاصرة خاصة على المستوى المحلي، فبعد انكشاف استراتيجية الإلهاء التي مورست تحت شعار – مراكش المهملة – في إطار ما يعرف بالحرب الناعمة والتي استهدفت السيدة العمدة فاطمة الزهراء المنصوري، أضحى جليا أن لحظة رد الحساب السياسي بات وشيكا، لهذا فتدبير المرحلة السياسية المقبلة سيتطلب قدرا أعلى من النضج السياسي ومزيدا من التحصين التنظيمي.
وختاما نتمنى لكم نجاح فعاليات الجامعة الصيفية في دورتها السادسة .















